جزء خاص بهذا الموضوع مختار من                
 الفصل الثاني عشر
من كتاب الرحالة والغابة         
 

   

إنسـان  غريب  .. أضحكني   وأبكاني

    جزيرة (تيومان) واحدة من أجمل عشـرة جزر في العالم .. هـكذا كانوا يكتبون عنهـا بعد أن صوروا فيهـا فيلم (جنوب

 الباسـيفيك) .. الشـواطئ أغلبهـا صخرية مع اسـتثناء بعض الشـواطئ الرملية .. ولكن لمن يبحث عن شـواطئ لقضاء

 عطلة الصيف فإن عليه أن يبحث عنهـا في مكان آخر .. فمركز قـوة وجمال هـذه الجزيرة يكمن في غاباتهـا الاستوائية

 التي يخاف الغرباء من الدخول إلى أعماقهـا .. ولهـذا السـبب قررتُ الذهـاب إلى هـناك .. اسـتأجرتُ قارباً صغيراً من

 مدينة (ميرسـنج) Mersing الصغيرة والتي يعيش أهـلهـا على صيد الأسـماك .. واحتاج القارب لمدة أربع سـاعات في

 بحر الصين الجنوبي ليوصلني إلى هـذه الجزيرة المنعزلة .. وهي واحدة من 64 جزيرة بركانية متناثرة في الشـاطئ

الشـرقي لدولة ماليزيا .. وقد قررتُ قبل الدخول إلى أعماق الغابات أن أقضي بضعة أيام مع سـكان الجزيرة قريباً من

 شـاطئ البحر .. وحتى أسـتمتع بنسـيم البحر الرطب وحتى أنام على صوت الأمواج فقد نصبتُ شـبكة نومي على

 شـجرة قريبة من البحر وتبعد فقط خمسـة أمتار من الشـاطئ .. حتى أنه عندما يرتفع مسـتوى البحر بسـبب ظاهـرة

 المد والجزر كانت المياه تغمر المنطقة التي تحت شـبكة نومي .. ولم يكن ممكناً أن أتمكن من مغادرة شـبكة النوم أو

 الذهـاب إليهـا بدون أن تتبلل قدمي في مياه البحر

 بمجرد وصـولي إلى الجـزيرة جاءني أحد سـكانهـا الذي كان يعرف كلمات قليلة جداً من الإنجليزية ،أو بمعنى أدق يعرف

 فقط جملتين أو ثلاثة من الإنجليزية .. وسـألني: من أي دولة أنت ؟.. فقلت له: من مصـر .. فـرد قـائلاً بالإنجليزية: إيجبت

 باكو Egypt Pako .. وتعني (مصـر باكـو) .. وحاولتُ أن افهـم ماذا يقصد بكلمة Pako فلم أفهـم أكثر من أنه يتحدث عن

 رجل طويل القامة ضخم الجثة له عضلات قـوية واســمه (باكو) ويعيش هـناك في اتجاه الجنوب .. ولم أعـر هـذا الرجل أي

 انتباه أو أهـمية حيثُ أنني لم افهـم ماذا يقصد بكلمة (مصـر باكـو) التي كـررهـا أمامي عـدة مـرات .

 قد تعلمنا في المدارس أن الأشـجار لكي تنبتْ فأنهـا تحـتـاج إلى المياه العـذبة وأنهـا لا تنبتْ في المياه المالحة .. وكما

 نعرف أن الغابات والأشـجار تسـاعد في تماسـك التربة ولو اسـتطعنا زراعة الأشـجار على شـواطئ البحر وعلى سـبيل

المثال في دلتـا نهـر النيل في مصر لأمكننا حل مشـكلة النحـر بطـريقة طبيـعية تتـلاءم مع البيئـة .. ومشـكلة النحـر هـذه

 تعني إن الشـواطئ تتآكل شـيئاً فشـيئا وبهـذا تتناقص أرض دلتا نهـر النيـل .. وقد قام الخـبراء بوضع مكعبات كبيرة من

 الخرسـانة الأسـمنتية في مياه البحر المتوسـط أمام الشـواطئ التي تتـآكل .. وهـذه الأجسـام الخرسـانية ذات منظر

 قبيح ولون رمادي يؤذي العـين ويغـم النفـس .. وكنتُ أتمنى لو أن هـناك بعض الأشـجار تنبتْ في الماء المالح حتى

 تكون شـواطئنا مليئة بالأشـجار الظليـلة بدلاً من الأجسـام الخرسـانية القبيحـة .. وعندما وصلتُ إلى هـذه الجزيرة

 وجدتُ أحـد أنواع أشـجار الـ (مانجروفـن) Mangroven المعروفة بأنها تتحمل ملوحة ماء البحر وهي تنمو على

 شـاطئ البحر والمياه المالحة تحيط بهـا من كل جانب .. وقد تعجبتُ كـثيرا لتلك الأشـجار التي تأقـلمتْ حتى مع الماء

 المالح .. ولقد تعمدتُ هنا كتابة اسم هذه الشجرة بالحروف اللاتينية لعل الجهة المختصة بحماية الشواطئ المصرية أو

 أحد خبراء النبات في بلادنا يجد في أشـجار الـ (مانجروفـن) ما يسـتحق الاهـتمام والبحث من أجل حماية دلتـا نهـر

 النيـل .. فهناك أنواع عديدة وليس نوع واحد من هذه الأشجار المعروفـة بمقـدرتها الخـياليـة عـلى التـأقـلم بالأجـواء

المحـيطـة بهـا ،فمنهـا مـن لـه شـبكات معقدة من الجـذور الهوائية ،ومنها الأنواع الصغيرة الحجم ألـمُسماه بـ (الأقزام)

والتي تنبت حتى في حالة التربة الرملية شبه منعدمة الغذاء ويكون لها صورة (أقزام أشجار) كي لا تحتاج إلى الكثير من

 الغذاء ،كما أن بعض أنواعها تنبت أيضاً في مصبات الأنهار في البحار بطريقة كـثيفة جداً لدرجة أنها تشكل ما يُسمى بـ

(غابات المانجروفن) .. أنا لستُ خبيراً في علم النبات ولكنها ملاحظات رحالة يتجول في بلاد الله الواسعة فقد رأيتُ

 بعيني تلك الأشجار الغريبة التي تنبت في وسط الماء المالح كما رأيتُ في أمريكا الجنوبية نوعاً آخر من الأشجـار لا

 تحـرقه الـنيران .

 ذات يوم لفت نظري أن إحدى أشـجار الـ (مانجروفـن) كانت ذات أوراق بنية اللون وشـكل غريب يختلف عن أوراق

 الأشـجار التي تكون في العادة خضـراء اللون .. فلما اقتربتُ من هـذه الشـجرة وجدتُ أن أوراقهـا البنية اللون ليسـت إلا

 عبارة عن مئـات الخفافيش النائمة .. والخفاش ينام ممسـكاً بقدميه على غصن الشـجرة ورأسـه مُـدلى إلى أسـفل ..

و قبيل غروب الشـمس وفي نفس الميعـاد بالضبط من كل يوم تسـتيقظ الخفافيش من نومها .. حتى أني كنتُ أنظر في

 سـاعتي وأقـول قد بقيتْ خمس دقائق حتى تسـتيقـظ هـذه الخفـافيش من نومهـا .. وفي الميعـاد المحدد يسـتيقظ

الخفـاش الأول ثم يتبعه الآخرون وفي خلال دقائق معدودة تكون كل الخفافيش قد اسـتيقظتْ من نومهـا العميق وامتلأتْ

السـماء بسـحابة من الخفافيش التي ذهبتْ في طلب الرزق .. وكنتُ أتعجب كيف أن هـذه الخفافـيش تحافظ على مثل

 هـذا التوقيت الدقيق وكيف أن سـاعتهـا الربانية تعمل بهـذه الدرجة من الدقة .. وقد تابعتُ هـذه الخفافيش عدة أيام

وكانت دائماً تسـتيقظ في نفس الميعاد عند الغروب بعد أن تقضي طوال النهـار في النـوم .

 ذات ليلة كنتُ أنام مضطجعاً على ظهـري في شـبكة نومي التي علقتهـا تحت الشـجرة القريبة من البحر .. وفي حوالي

 السـابعة صباحاً شـعرتُ أن شـيئاً ما قد وقع من الشـجرة على بطني .. وقد اعتقدتُ في اللحظة الأولى أن غصناً من

أغصان الشـجرة هـو الذي وقع على بطني .. وكنتُ في هـذه اللحظة مازلتُ شـبه نائم وبطريقة عفـوية مددتُ يدي لأبعد

 هـذا الغصن عن بطني و أزحته جانباً ليقع من شـبكة النوم على الأرض .. وبعد أن أزحتُ هـذا الغصن بعيداً عني ليقع

 على الأرض قريباً من شـبكة نومي ،أدركتُ أن هـذا الذي أزحته عني لم يكن ملمسـه مثل ملمس غصن من الخشـب

.. وأن هـذا الملمس كان دافئـاً وناعمـاً .. وبمجرد أن خطرتْ ببالي هـذه الأفكار قفزتُ من نومي مفزوعاً لأنظر إلى هـذا

الشيء الذي أزحته عن بطني والذي وقع على الأرض بجانب شـبكـة نومي .. ولأول وهـلة لم أصـدق عيني فقد كان

ثعبـاناً كـبيراً يزيد طولـه عن المترين .. وفي فمه وبين أنيابه كان يقبض على رأس نوع من السـحالي الكبيرة التي

تُسـمى (لجوان) Leguane والذي كان طوله يصل إلى نصف المتر .. وقد قبض الثعـبان بفكيه على رأس الـ (لجوان)

ويحاول بلعه بعد أن سـمم جسـده بسـمه القاتل .. وعرفتُ أني أمام منظر لن يتكرر مرة أخرى في حـياتي .. ووجدتُ

 كـاميرا التصوير قريبة من يدي فقـررتُ أخـذ صورة فـوتوغرافية لهـذا الثعـبان وقد ابتـلع بالفـعل رأس الـ (لجوان) ويحاول بلع

 باقي جسـده كاملاً.. وبينما أنا منهـمك في تصوير الثعـبان تذكرتُ أنني مازلتُ على مقربة منه وأنه لو رفـع رأسـه عـن

 

الأرض يمكنه أن يلدغني في شـبكة النوم .. فقفـزتُ بسـرعة من شـبكة النوم مما أزعـج الثعبان وأفزعه وجعله يتوقع أنه

 في خطـر داهـم مما اضطـره أن يترك فريسـته من فمه جانباً ويرفع رأسـه والجزء الأمامي من جسـمه عن الأرض في

 وضع الهـجوم والدفاع عن نفسـه .. وفي هـذه اللحظة فقط عندما رأيتُ الثعبان رافـعـاً رأسـه مكشـراً عن أنيابه وقد نفش

 جلده في منطقة الرقبة وخلف منطقة الرأس عرفتُ أنني أمام ثعبان من نوع (الكوبرا الملكية) .. واعتقد أن خطورة ثعبان

 الكوبرا في غنى عن الوصف والتعريف .. فركضتُ بسـرعة مبتعداً عن المنطقة التي يمكن أن تصلني فيهـا أنيـاب الثعـبان .

 بعد ذلك عـرفتُ أنني أخطـأت بقفـزتي تلك من شـبكة النوم .. وإن خـوفي من الثعبان كان أيضاً خطـأ كـبيراً وليس في

 محله ،وإنني بذلك قد فـوتتُ على نفسي فرصـة العمـر .. فقد فـوتتُ على نفسي فرصة كبيرة لا اعتقد أنهـا سـتكرر مرة

 أخرى .. ولكني بعد أن أزحته عن بطني ورأيتُ الثعـبان مازال على مسـافة قريبة من شـبكة نومي تملكني الخوف

 وكانت قفزتي تلك لأبتعد عنه هي عبارة عن رد فـعل تلقائي لم أفكر فيه .. ولو كنت فكرتُ قليلاً لفـعلتُ غير ذلك الذي

 فـعلته .. فالتصرف الصحيح في هـذا الموقف كان أن لا أهـرب منه ولا أزعجـه أثناء تناوله فريسـته .. كان يجب أن أفكر

 قليلاً وأبقى هـادئاً في مكاني في شـبكة النوم لأسـتمتع بمشـاهـدة صورة نادرة بالعين المجردة وعلى مسـافة قريبة

 جداً .. لأشـاهـد عن كثب عملية بلع الثعبان لمثل هـذه الفريسـة الكبيرة .

 

. إن مثل هـذه الفرصة الطبيعية ينتظرهـا المصـورون شـهوراً وسـنين وقد لا يحصلون عليهـا .. وقد كنتُ أعرف جيداً أن

 الثعـبان بعد بلع مثل هـذه الفريسـة يكون هـادئاً وديعـاً ويخلد إلى الراحة لأن معدته مشـغولة بهـضم هـذه الوجبة

 الدسـمة .. فقد كانت أمامي فرصـة مشـاهـدة عملية البلع كاملة ومشـاهـدة ما بعد عملية البلع وكيف أن ذلك الـ

 (لجوان) الكـبير يتلاشى شـيئاً فشـيئا في معدة الثعـبان .. كان ممكناً قضاء سـاعات جميلة في مشـاهـدة ذلك الفيلم

الطبيعي .. بالإضافة إلى مراقبة الثعـبان في مرحلة الهـدوء والاســترخاء أو كما يسـميها البعض مرحلة التخدير حيثُ أن

الثعـبان يكون وكأنه مُخدر بعد بلع مثل هـذه الفريسـة .. كان يجب أن لا أخاف من الثعـبان في مثل هـذه الحالة وأن أبقى

 قريباً منه لمراقبته .. ولكني حـالي في ذلك مثـل حـال باقي البشـر فإنني أخـاف وأفـزع وأتصـرف أحيـانا بتلقـائية وبدون

 تفـكير ... في هـذه اللحظة كان أحد سـكان الجزيرة قد رأى الثعبان وهـو رافع رأسـه مكشـراً عن أنيابه فأخذ يصيح: كوبرا

 .. كوبرا .. وأحضر هـذا الرجل عصا طويلة جداً من البوص .. ربما يكون طـولها حوالي ثلاثة أمتار وحاول أن يضرب بهـا

 الثعبان عن بُعد .. ولكن الثعبان كان رشـيقاً وسـريع الحركة فلم يتمكن الرجل من أصابته .. وهـرب الثعبان في اتجاه

 البحر وأخذ يسـبح بمهـارة عالية بين الأمواج العاتية وأنا أتابعه بنظري وهـو يشـق طريقه بين الأمواج .. وأشـار الرجل

 بيده موضحاً إن الثعبان سـيعود مرة أخرى إلى نفس المكان ليلتهـم فريسـته التي تركهـا هـنا .. ولم أكن لأصـدق ذلك

 لولا أنني رأيته بعـيني يخرج من البحر مرة أخرى ليعـود إلى نفس المكان .. أو ربما يكون السـبب في ذلك هـو ما يقـوله

 بعضهـم بأن ثعـبان الكوبرا لا يحب أن يبقي طـويلاً في المياه المالحة .. على كل حال فقد رأيته يخرج من البحر ويعود

 مرة أخرى سـواء كان السـبب في ذلك هـو اسـترداد فريسـته أو لأن المياه المالحة تسـبب له حرقة في جلده .

 أنا في العـادة لا أقتل الثعـابين إلا في حـالة الضرورة القصـوى .. أو في حالة الجوع الشـديد .. ومثل هـذا الثعبان العظيم

 الهـيبة من نوع (الكوبرا الملكية) الذي كان طوله يصل إلى مترين وعشـرين سـنتيمتراً من الأفضل تجنبه وتركه في حال

 سـبيله .. ولكن هـذا الثعبان في هـذا المكان قد صار بعيداً خارج الغابة ومثل هـذا الثعبان لا يمكن الإمسـاك به حياً

 وإرجاعه إلى الغابة لأنه يدافع عن نفسـه بسـمه القاتل .. ولكن في حالة الثعـابين الغير سـامة مثل ثعبان البيثون يكون

 الأمر أبسـط من ذلك لأنه يمكن الإمسـاك به وحمله إلى داخل الغابات دون أن الحق به أو يلحق بي أي أذى .. ولكن هـذا

 الثعبان الآن قد أصبح قريباً من سـكان الجزيرة وهـناك احتمال كبير في أن يلدغ طفلاً أو رجلاً ولذا كان لابد أن أصطـاده ..

 وكنتُ أعرف أن مثل هـذا الثعبان الكبير لا يمكن صيده بتلك العصا الطويلة لأن مثل هـذه العصا عندما تهـوي بها تتقابل

 مع سـطح الأرض في نقطة معينة .. ومثل هـذه النقطة يجب أن تكون هي رأس الثعـبان لأن الثعـبان لا يموت بالضرب إلا

 عندما تصيبه في رأسـه .. وهـذه عملية صعبة التنفيذ وخصوصاً من تلك المسـافة البعيدة لأن الثعبان يتحرك ويتلوى

 بصفة دائمة ولا يبقى ثابتاً في مكانه حتى تضربه .. ولذا قررتُ اسـتخدام خبراتي الهـندسـية في صيد هـذا الثعبان ..

 فـوجدتُ على الشـاطئ قطعة ثقيلة من الخشـب ويزيد طولهـا عن المتر والنصف .. وقد عرفتُ أنني عندما القي قطعة

 الخشـب على الأرض فأنها تتقابل مع سـطح الأرض في خط مسـتقيم .. وفي حالة الخط المسـتقيم فإن الاحتمال أكبر

 في صـيد الثعـبان المتحرك .. فقررتُ رمي قطعة الخشـب على الثعبان في المنطقة القريبة من الرأس .. ثم وقفتُ

 بوزني الذي يبلغ ثمانين كيلوجرام فـوق قطعة الخشـب وأفسـحتُ قدماي عن بعضهـما حتى لا يلدغهـما الثعبان ..

 وبذلك لم يسـتطع الإفلات من تحت قطعة الخـشـب الثقـيلة .

وبهـذه الطـريقة رزقني الله بوجـبة عشــاء فاخـرة من اللـحم المشوي .. من لحم ثعـبان الكوبرا الملكية ..!!

*************************

لتكملة معرفة قصة الرجل الغريب الذي أضحكني وأبكاني أقرأ بقية الفصل الثاني عشر من كتاب الرحالة والغابة - الوقائع الحقيقية لرحلاتي في الغابات الأستوائية - تأليف الرحالة المهندس أحمد الشهاوي

 

 

 

 أضغط هنا لترسل رأيك لإدارة الموقع