أنتظر قليلا لتسمعها بصوت المؤلف



مقدمة كتاب الرحالة والغابة
 
تستقبلني الغابات بموسـيقى نغـمات الطيور وبعـزف خـرير الماء وتمـايل أغصان الشجر كل عام في شهر ديسمبر

 حيثُ أسافر وحدي في رحلة تستمر شهرين أو ثلاثة بحثـاً عن الغابـات الاستوائية بأدغالها الوعرة وأشجارها الكثيفة

وما فيها من كائنات حية .. شـهوراً طـويلة أمضيتها سـيراً على الأقـدام داخل الغابات وليس معي عتاد سـوى سـكين

وحقيبة صغيرة على ظهري وعصا أتوكأ عليها ،وليس معي خـيام ولا أمصال مضـادة للسـموم ولا تليفـون ولا بوصلة ولا

 طعام ولا شـراب .. أنام على الأرض أو على الشجر وأشـرب من ماء النهر .. كنتُ أبحث عن الغابات في صورتها البـكر

وأبحـث عن الإنسـان في صـورته الأولى .. كـنتُ  أبحـث عـن الطـبيعة كما خـلقها الله .. وقد قابلتُ شـعوباً وقبـائل

مختلفة ممن يعيشـون داخـل الغـابات وأكلت طعامهم ونمتُ نومهم ،فقد كـانت متعتي الوحـيدة أن أشـعر أنني طـير

مهـاجر أتنقـل من غـابة إلى غـابة ..  أحببتُ السـفر منذ ثلاثين عاماً وسـافرتُ إلى بلاد ودول كـثيرة ولكني في عام

1991م اكتشفت عشقاً وحباً داخلي من نوع غريب .. إنه عشق الغابات الاستوائية !!.. حب الأشـجار الكـثيفة

والحـيوانات البرية وخـرير الماء والنـوم على الأرض في الخـلاء حيثُ الظـلام الحالك وقطـرات الندى التي تبلل وجهي

عند الصباح .. حب الوحدة والخلوة مع النفس في أدغال غابة كبيرة .. إنه حب من نوع خاص ربما يكون الدافع وراءه هو

البحث عن الحرية والانطلاق .. أو الرغبة الجارفة في رؤية الكرة الأرضية قبل فراقها .. أو ربما يكون البحث عن نوع جديد

من الخبرة والمعرفة ،أو البحث عن الجنة المفقـودة والمدينة الفاضلة .. أم ربما يكون الدافع وراء ذلك هو البحث عن

الذات .!! وربما لا هذا ولا ذاك وإنما هي  خُطى كـُتبتْ علينا ومن كـُتبتْ عليه خُطى مشاها .. !!

في السـنين الأخيرة اكتشـفتُ أن ذاكرتي بدأت تخونني وأني قد نسـيتُ بعض أحداث رحلاتي القديمة وقد نصحني

البعض بضرورة كتابة هذه التجارب .. ولكن المهمة كانت صعبة وشاقة لأن كمية المعلومات التي تجمعت على مدى

سنين طويلة كانت كبيرة وكثيفة .. ووجدت أمامي آلاف الصور الفـوتوغرافية وعشرات من أفلام الفيديو التي صورتها

بنفسي وكوم من قصاصات الورق التي كتبتُ بها  بعض الملاحظات .. ولم أكن أعرف من أين أبدأ ؟.. وبأي رحلة أبدأ

كتابي .. ووجدتُ أنه من الأيسر أن أكتب أولاً عن الرحلتين الأخيرتين فما زالت أحداثهم واضحة في ذاكرتي .. وبعد أن

وصل حجم الكتاب إلى أكثر من 400 صفحة كان لابد أن أتوقف عن الكتابة برغم إنني لم أكتب نصف ما عايشته في

هاتين الرحلتين .. ويحضُرني في هذا المقام حكاية الرحالة الكبير (ماركو بولو) بعد أن رجع من رحـلته إلى آسـيا التي

 اسـتغرقت 24 عاماً ولم  يصـدق الناس حكاياته الغـريبة التي كان يحكيها .. وفي عام   1324م  وعندما كان الرجل ينام

في فراش الموت وهو في السـبعين من عـمره اجـتمع حـوله رجــال الدين والأصـدقاء وطـلبوا منه أن يتـوب لربه عن

الأكـاذيب التي كـان يحكيها للناس حتى تخـرج روحه طاهرة إلى بارئها ، فـرد عليهم غاضـباً وهو في سكرات الموت

قائلاً: فماذا لو حكـيتُ لكـم كل ما رأيتـه ، إنني لم أحـكِ لكم نصـف ما عايشـته في رحلتي ..  وأنا أيضاً في هـذا

الكـتاب لم أحـكِ لكم نصـف ما عايشـته !!

كتبتُ هذا الكتاب بأسلوب تلقائي بسـيط لتجد كلماتي طريقها إلى  القلب لأن هـذا الكـتاب يعـبر عن واقـع حقـيقي

عايشـته لحظـة بلحظـة وأحسـسته بجـلدي ولحمي وانتفـض معـه جسـدي وارتجـف له قلبي .. إنها معـاناة إنسـان

بلحمه ودمه .. إنه قـدري الـذي رضـيتُ بـه .                    

                                                                                                                    أحمد الشهاوي  
                 

 

 

 

 أضغط هنا لترسل رأيك لإدارة الموقع