الفصل التاسع والثلاثين من كتاب الرحالة والغابة  

آخر رجل بدائي في قبيلة    "بــاتاك "

 

بينما أنا متمدد بجوار الكوخ وقبل أن أنام خطر على بالي أن أسـأل (كـالين) قائلاً: هل سـمعت في الأيام الأخيرة أي

أخـبار عن (بنـدلين) ؟.. فقـال (كـالين): نعم لقد قـابلته بالأمس في الغـابة في مكان على مسـافة مسيرة نصف يـوم

من هنا ولكنه يتنقل دائمـاً من مكان إلى مكان وسأحاول غداً أنا ورجلان من القبيلة الذهاب إلي هناك وإحـضاره إلى

هـنا إن وجـدناه .. وقد وعـدته إن نجـح في إحضاره فسـأشـترى له كـمية كبيرة من الأرز والـزيت .. وكان الظـلام قد حل

على المكان فنمنـا ليلتنا في أمان وسـلام بعد إن شـربنا بعضاً من القهوة السـوداء .

في صباح اليوم التالي ذهب ثلاثة شـباب من هذه القبيلة يجـوبون الغـابة بحثـاً عن (بنـدلين) ودعوتُ لهم الله بالتوفيـق

في المهمة التي لم أنجـح أنـا فيهـا من قبل ويبدو أن أبواب السـماء كانت مـفتوحة وأن الله قد اسـتجاب دعائي فقد رأيتُ

أحدهم عـائداً بعد وقـت العصر ومعه رجل عـاري الجسـد حـافي القـدمين لا يرتدي سـوى قطعة صغيرة من شيء مثل

نبات (اللوف) مصـنوع من لحـاء الأشـجار يغطي به عـورته .. أنـه هـو (بـندلين) آخـر رجـل بـدائي مازال على قيد الحياة

في هـذه القبيلة .. إنها مفـاجـأة لم أكن أتوقعها .. إنه شـرف عظيم وحظ كـبير يفـوق كل توقعاتي وأحلامي أن أقابل هذا

الرجل وجهاً لوجه .. فهو رجل وحيد من نوعه .. وليس علينا إلا أن نتخيل أنه في يوم ما كانت هـناك قـبيلة كـاملة

وجماعة من البشـر بأعـداد كبيرة تعيش بهذه الطريقة البدائية ثم بدأتْ تنقـرض وتنخـرط في الحياة العـادية ولم يبق على

هذه الحالة سـوى (بنـدلين) .. إنه آخر رجـل من نوعـه .. أنني عندما أقف أمامه أحـاول أن أتخـيل وكأني مثلاً أقف أمام

آخـر إنسـان مصـري أو آخر إنسـان ألماني أو آخر إنسـان ياباني .. لابد أنه شـعور وإحسـاس غريب أن تكون آخر رجل من

نوعك .. لابد أنه شـعور مؤلم أن يعرف (بنـدلين) أنه بموته تنتهي حـقبة تاريخـية من نـوع خـاص من الصـنف البشـري

وتخـتفي معه طـريقة حـياة بشـرية تعتمـد في جـوهرها على البسـاطة والفطـرة .. إنها الفطـرة التي نتحدث عنها ولا

نعرفهـا .. بمـوت هـذا الإنسـان تمـوتْ الفطـرة الواقعيـة بمعناهـا الحقيقي وتبقى عندنا الفطـرة التي نقـرأ عنها في

الكتب أو التي نحـاول أن نفلسـفها ويدعي بعضنا أنه يعـرفها ونحن أبعـد ما نكـون عنها .. أنا الآن أقـف أمام الفطـرة بعـينها

.. أنا أقف أمام الإنسـان كما خلقـه الله عارياً من كل شيء إلا قطعـة من لحاء الأشـجار يغطي بها عـورته .

هذا الرجل لا يمتلك ســوى نفسـه ولكن عنـده رضـا وقنـاعة وهـدوء في حـياته .. أخذتُ أنظـر إلى ملامـح الرجل ومـددتُ

يدي لأسـلم عليه ولكنه لا يعرف التحية بواسـطة اليد فربتتُ على كتفه ووجدتُ جسـمه صغيراً طولـه حوالي 160 سـم

ووزنه خـفيف ربما خمسـون كيلو جرام .. نحيف الجسـم ولكن عضلات جسـمه واضحة وكأنها عضلات رجل رياضي ..

عروق الدم والشـرايين غليظة وواضحة في يديه وصدره مما يدل على النشـاط والحركة الدائمة .. خفيف الحركة فـعـندما

يمشي تعتقـد أنه يقفـز برشـاقـة ولا يأكـل كـثيراً ولا يشـرب كـثيراً وهو يعتقـد أن عمره تقريباً سـبعة وخمسـون عاماً

ولكن لا أحد يعرف بدقة عمره الحقيقي وعندما سـألته عن حياته قـال: إنه لم يمـرض طوال حـياته مـرضاً حقيقياً .. وقمتُ

بتشـغيل كاميرا الفيديو حتى أقـوم بتسـجيل هذا الحوار خـوفاً من أن تضيع خـبرات وأفكـار مثل هـذا الرجـل في سـجل

النسـيان .

حيثُ أن الأديان المخـتلفة تقـول إن الإيمان بالله عملية فطرية وإن الإنسـان بفطرته يبحث عن خـالقه فقد كانت هذه

فـرصة سـانحة لأسـأله عن ذلك فطلبتُ من مرافقي أن يترجم هذا السـؤال إلى (بنـدلين): هل تعتقد في وجـود إلـه ؟..

 فرد (بنـدلين)بدون تـردد قـائلاً: نعم .. فسـألته: وكيف عرفت أن هـناك إلـه مـوجود ؟.. فقال: عندما أكـون في مأزق أو

موقف خطير وأمامي حـيوان كـبير أو ثعبان كبير فأسـأل الإلـه أن يسـاعدني ويخرجني من هذا المأزق وكان في كل مـرة

يسـاعدني في ذلك مما يدل على أنه موجود .. ثم سـألته: وهل تعتقد أن هناك بعد الموت حياة أخرى ؟.. فقال

(بنـدلين): لا أعـرف .. فقلتُ لمرافقي أن يترجم له قـولي: أنني أحترم من  يقـول (لا أعرف) .. ثم سـألته: وهل تعتقـد أن

الإنسـان الذي يفـعـل الخـير في حـياته يتسـاوى مع الذي يفـعـل الشـر ؟.. فقـال: لا .. فسـألته مسـتطرداً: وما هو

اعتقـادك فيما يحدث بعد الموت لرجل كان يفـعـل الخير ولرجل كان يفـعـل الشـر ؟.. فقال: اعتقد أن الذي يفـعـل الخير

يذهب إلى الإلـه والذي يفـعـل الشـر يذهب إلى الشـيطان .. فسألته: وهـل يوجد شـيطان ؟.. فقـال: نعم لقد رأيتـه ..

فقلتُ له: هل رأيت الشـيطان ؟.. فقال: نعم ،فقد كنتُ أمشي في الغابة قبيل المسـاء ورأيته يختبئ بين الأشـجار

ولكن لم تكن صورته واضحة بسـبب عتمة الظلام .. وسـألته: وكيف عرفت أنـه هو الشـيطان ؟.. فقال: قد شـعرتُ بذلك

فقد اقشـعر جسـمي من الخوف وأحسـستُ برعب في قلبي فـعـرفتُ أنه الشـيطان فأسـرعتُ مبتعداً عن طريقـه ..

فسـألته: هل أنت متأكد تماما من أن هذا الذي رأيته هـو الشـيطان .. فقال: نعم تمـام التأكـيد .. وسـألته: وماذا كـنتم

تصنعون بجـثة الميت ؟.. فقـال: نلـفها بعيدان البـوص ونحفر حفرة في الأرض وندفنها حتى لا تفترسـها الحيوانات .

ظللتُ أسـأل (بندلين) عن أشـياء كثيرة ،كنتُ أسـأله عن كل ما يخطر ببالي من أسـئلة وقد سـجلتُ له فيلماً طويلاً ..

ولكنني بعد حوالي نصف سـاعة من تصـوير الفـيديو ترفقتُ بـ (بنـدلين) الذي لم يفهم ما هذا الذي يـدور حوله وكان

يضحك كـثيراً عندما يرى صـورته داخـل كـاميرا الفـيديو .. وقـد فرح (بندلين) كثيراً عـندما أعـطيتـه سـيجاراً صـغيراً كـنتُ

أحتفـظ به لاستعماله في تضمـيد الجروح التي تنتج من الـدود الماص للدمـاء (العـلق) ،وقـد أسـتمتع (بندلين) كثيراً

 بتدخين هذا السـيجار .

ثم قلتُ لنفسي: يكفي هذا القـدر من التصوير فقد أرهقـتُ الرجل معي .. وأطفـأتُ كاميرا التصوير وجلسـتُ بجـانبه حول

النـار التي كـنا قد أشعلناها وجلسـنا نتحدث طوال الليل وهو يحكي لي كيف أن قـبيلته كانت قـديماً قـبيلة كبيرة ولم

يبق منهم الآن إلا عشـرات فقط وحتى هـذه العشـرات بدئوا يتنـازلون عن تراثهم وعاداتهم فلم يعـد أحـد منهم يريـد أن

يرتـدي مـلابس آبـائنـا وأجـدادنـا المصنوعة من لحاء الأشـجار الليفي .. وقلتُ له: هـل هـذا اللحاء الليفي الـذي تغطي به

عـورتك مريحاً أم أنه خشـن الملمس ؟.. فقال: إنه مـريح جداً .. فقلتُ لـه مـداعبـاً: وإذا أنـا ارتديتُ هذا اللحـاء الليفي هل

تعـتبرني رجـلاً من قـبيلة الـ (باتـاك) ؟.. فرد مبتسـماً وقال: أعـتبرك نصـف (باتـاك) .

خيم الظلام والسـكون على الغابة ولم يعد هنـاك سـوى ضوء النـار التي نجلس حولها وقد مد (بنـدلين) يديـه ليدفئهما

فـوق النـار المتوهـجة ثم واصـل قصـة قـبيلته المؤلمة فقـال والأسى والحزن يكسـو وجهـه: إنني أعـيش قـدر صـعب

لأنني أرى أمـام عـيني كيف أن قـبيلتي تخـتفي من الوجود فلم يعـد غـير عـدد قـليل جـداً على قـيد الحياة ،فرجل

الـ (باتـاك) الحـقيقي لابـد أن يكـون من أب (باتـاك) وأم (باتـاك) ولكن للأسـف قد تـزاوج الكـثير من الـ (باتـاك) بنسـاء من

قـبيلة (تاجـبانوا) الذين يعيشـون في قرى على شـواطئ البحر وبجوار الأنهار وقد خـرج الكـثير من أفراد قـبيلتنا من

الغـابات وعاشـوا في القرى وبذلك نتـج خليط جديد ليس له انتـماء ولا جذور وحتى العشـرات القليلون الذين مازالوا

(باتـاك) صاروا لا يرتدون ملابس الـ (باتـاك) .. وإن من لا يعيش على طريقة الـ (باتـاك) ولا يرتدي ملابس الـ (باتـاك) لا

يكون من الـ (باتـاك) .. فقلتُ له: وهل تعلم أنك آخـر رجـل (باتـاك) يعيش على طـريقة الـ (باتـاك) الأصلية ؟.. فـرد الرجل

بنبـرة كلها حـزن وأسى قائلاً: نعم أنا أعرف أني آخر رجـل بـدائي في قبيلة الـ (باتاك) في هذه المنطقـة .. ثم كف الرجـل

عن الحديث عند هـذا الحد وأخذ ينظـر إلى ألسـنة النار التي أمامـه وكأنه يسـترجع ذكـرياته القـديمة وطـفـولته وشـبابه

بين هذه الأدغـال الجـبلية .

خيم الصمت على المكان ونظرتُ إلى وجهه على ضوء النار  فـوجدتُ به شـموخ وعـزة نفس وبراءة وطيبة من نـوع غـريب

 .. إنه إنسـان مثلي ومثلك ولكنه إنسـان نظـيف لم تتلوث أفكاره .. مازلتُ لا أصدق أني أجلس أمام إنسـان على فطـرته

الأولى .. فلم أكن أحلم بأن أقـابله وجـهاً لوجـه بعد أن بحثتُ عنه أياماً طويلة وســط الغابات ولم أجـده .. أنـا لا أصـدق

أنني قابلتـه وتحـدثتُ معه وصـورتُ معـه حـوار بكاميرا الفـيديو .. لقد كانت الأقـدار كـريمة معي وكـان حـظي وافـراً

وسـعـادتي غامـرة .. فأخيراً وبعد سـفر سـنين طـويلة قابلتُ إنسـان على الفطرة كما خلقه الله .. وقد كان كما تخيلته

تماماً في مُخيلتي نحيف الجسـم ولكنه نشـيط ومـرن وليس لـه كـرش في بطـنه وليس بـه تخـمة وسـمنة في جسـده

، قـليل الطعـام وقـليل الشـراب ،هادئ الطـباع إلى درجة الخـجل ،صوته خـافت لا يعـرف الزعـيق والزمر والتهـليل يقـنع

بالقـليل ويحب التدخـين أحـياناً ولا يعـرف القُبلة ولا التقبيل وهو لم يُقَبـل امـرأة واحـدة طـوال حــياته .. كما إن أغـلب

الشـعوب البـدائيـة بمـا فيهم قبيلة الـ (باتاك) لا يُقبلون زوجاتهم ،فقُبلة الرجل للمرأة ليست من الفطرة البشـرية في

شيء بـل هي مُـنتج حـضاري اخترعه الإنسـان المتحضر .. وقد كنتُ أحاول أن أفسـر هذه الظاهرة لبعض أصدقائي وكـيف

أن كـل الشـعوب البـدائية التي رأيتـها لا تعـرف القُبـلة التي بين الرجل والمرأة وإن كانوا يعرفـون تقـبيل الطفل على خده

وكنتُ أقـول مفسـرا ذلكً: إن القُـبلة شيء غير صحي فهي يمكن أن تنقـل الأمـراض عن طـريق اللعاب الموجـود في

الفـم وكذلك تنقـل بعض أمـراض الرئـة ،ولذلك فأنـه من المحظور تماماً عند الشـعوب المتقدمة تقـبيل الأطفال في فمها

فالقُبـلة عـادة غير صحـية ولكننا نفـعـلها كما أن الإكـثار من تنـاول الطعام أيضاً غير صحي ولكننا نفـعـله وكذلك النوم

الكـثير وقـلة الحـركة .. حياتنا كلها قد تحولتْ إلى نظام غريب معقـد وضعناه لأنفسـنا وتعـودنا عـليه لدرجة أنه صـار من

الصـعب عـلينا أن نتمـرد أو نخـرج على هذا النظـام .. لقـد تعـودنا على القيود والأغلال التي وضعناها بأنفسـنا في أيدينا

وأرجلنا حتى صرنا نعتقـد أن هـذه هي الطـريقة الوحيدة للحـياة وليس هناك طريقة صحيحة أخرى .. لقد تعـودنا على

الأمراض والعقـد النفسـية التي لدينا فنحن نخلط بيـن الرغـبة في الامتلاك وبين السـعادة ونعتقـد أنه كـلما زادتْ

ممـتلكاتنا كنـا أكـثر سـعادة ونسـينا أن زيادة الامتلاك تكبل الحرية وتقـيد القـناعة .. والواقـع يؤكـد أنه ليس هناك سـعادة

بلا حرية ولا قنـاعة .. لقد تعودنا على قصر النظر فلم يعـد يمكننـا أن نرى إلا ما تراه العـين ..!!

 يجـب أن أتعـلم الكـثير مـن الـرجـل البـدائي (بنـدلين) .. كم أنا سـعيد أن أجلس أمام هذا الرجل وأحاول أن أتعـلم منه

فن الحـياة على الطريقة السـهلة البسـيطة فسـألته: ما هي أحـب أنـواع الطعـام إليـك ؟.. فقال: فاكهة المانجـو أنا أحبها

كثيراً .. فقلتُ له: إنني قد سـافرتُ كثيراً وبحثتُ في شـرق الدنيـا وغـربها عن رجل مثلك لأتعلم منه  فرد قائلاً: أنا إنسـان

بسـيط وليس عـندي أي شيء ..

  فقلتُ: له بل عـندك كل شيء ،أنت الأصل ،أنت الأصل وأنا الصورة الـمُقلدة أنت بقيت كما خـلقك الله وترعـرع جسـدك

في أحضـان الطبيعة ولكن أنا قد ترعـرع جسـدي من منتجات البقال والجـزار والسـوبر ماركت ،أنت لحمك ودمـك وقـلبك

نظـيف من الشـوائب ولكن أنا لحمي به دهون صناعية ودمي به مـواد كيماوية من تلك التي كانوا يرشـونها بالطائرات في

مصر ومـواد حافظة ولحـوم منتهية الصلاحية وما خفي في جسـمي كان أعظم ،وحتى قلبي به بقايا عـادات وطـباع

سـيئة أصارع من أجـل تنظـيفه منها ،أنت الأصـل يا(بنـدلين) وقد صـورك الله في أحسـن تقـويم .

لقد كان (بندلين) غير منتبه إلى كلامي الذي لم يفهمه فهو لا يعرف معنى كلمات (سوبرماركت) و(البقال) و(الجزار)

بالإضافة إلى أنه كان مشـغولاً بالنظر إلى مصباحي الصغير الذي يعمل بالبطاريات وقد كان مبهوراً جداً بهذا الشيء الذي

إذا ضغط على زر صغير فيه يخرج منه ضوء يضئ الطريق ويجعله يرى في الظلام .. وقد كانت سـعادته غامرة عندما أهديته

هذا المصباح ولذلك قـام بإهـدائي قطعـة من ملابسـه الليفـية المصـنوعة من لحـاء الأشـجار وقطـعة من البـوص مـثل

العلبة كان يربطها حول وسـطه بحـبل صغير .. إنها بالنسـبة لي هـدية عظيمـة وذات قـيمة كـبيرة جـداً ..!! إنها مـلابس

(بنـدلين) آخـر رجـل بـدائي في قـبيلة الـ (باتاك) ..!! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 أضغط هنا لترسل رأيك لإدارة الموقع